الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك **
ودخلت سنة تسعين: وقد تنافرت القلوب وقويت الوحشة بين الأخوين واجتمعت الأمراء الصلاحية على أن يكون الأمر كله للعزيز فاضطربت أحوال الأفضل. وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم يريد الشام وانتزاعها من أخيه الأفضل من أجل أمور منها أن جبيل " وهو من جملة الفتوح الصلاحية " كان مع رجل كردي فقيه أقامه صلاح الدين مستحفظا بها فأرغبه الفرنج بمال حتى سلمه لهم. وخرج الأفضل من دمشق ليستنقذه من الفرثج فتعذر عليه وظهر العجز عن استخلاصه فامتعض الأمراء لذلك وخوفوا العزيز من عاقبة أمر الفرنج فسار في صفر واستخلف أخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود وترك بالقاهرة بهاء الدين قراقوش الأسدي وصيرم وسيف الدين يازكج وخطلج في تسعمائة فارس. واتفق أن الأمير صارم الدين قايماز النجمي " أحد أكابر الأمراء الصلاحية " استوحش من الأفضل لإعراضه عنه فخرج من دمشق يريد إقطاعه ولحق بالعزيز فأكرمه ورفع محله. وهم الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه وحسنوا له محاربته فمال إليهم. وبعث إلى عمه العادل وهو بالشرق وإلى أخيه الظاهر بحلب وإلى المنصور بحماة وإلى الأمجد صاحب بعلبك وإلى المجاهد شيركوه صاحب حمص يستنجدهم على أخيه العزيز. فوردت رسلهم في جمادى الآخرة يعدون بالقدوم عليه. ثم إنه برز من دمشق ونزل برأس الماء. فلما وصل العزيز إلى القصير من الغور ضاق الأفضل ورجع من الفوار إلى رأس الماء فأدركت مقدمة العزيز ساقته وكادوا يكبسونه فانهزم إلى دمشق ودخلها لخمس مضين منه. ونزل العزيز في غده على دمشق في قوة قوية ونازل البلد. وكان الأفضل قد استعد لقتاله فقدم العادل والظاهر والمنصور والمجاهد والأمجد إلى دمشق. وبعث العادل إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع في الأفضل ويستأذنه في الاجتماع به فأذن له. وخرج العادل فاجتمع بالعزيز " وكل منهما راكب " وتحدث معه في الصلح وأن ينفس الخناق عن البلد وكان قد اشتد الحصار وقطعت الأنهار ونهبت الثمار والوقت زمن المشمش. فوافق العزيز عمه وتأخر إلى داريا ونزل على العوج وسير الأمير فخر الدين جهاركس الأستادار " وهو يومئذ أجل الصلاحية " إلى العادل فقرر الصلح على شروط وعاد إلى العزيز فرحل ونزل مرج الصفر فحدث له مرض شديد وأرجف بموته ثم أبل منه. وأمر بعمل نسخة اليمن وهى جامعة لمقترحات جميع الملوك وحسم مواد الخلاف وأن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه والملك المجاهد شيركوه يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون في حيز الملك الظاهر صاحب حلب ومؤزرا له. وبعث كل من الملوك أميرا من أمرائه ليحضر الحلف فاجتمعوا يوم السبت ثاني عشر شهر رجب وجرت أمور آلت إلى الحلف على دخن. وتزوج العزيز بابنة عمه العادل وقبل العقد عنه القاضي المرتضى محمد بن القاضي الجليس عبد العزيز السعدي. ووكل العادل القاضي محيي الدين محمد بن شرف الدين بن عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز وعقد بينهما قاضي القضاة محيي الدين. وكتب العماد الكاتب الكتاب في ثوب أطلس وقرئ بين يدي الملك الظاهر وعقد العقد عنده.فلما كان يوم الجمعة أول شعبان: خرج الملك الظاهر غازي صاحب حلب لوداع أخيه فركب العزيز إلى لقائه وأنزله معه وأكلا ثم تفرقا بعد ما أهدى كل منهما لأخيه هدية سنية. ثم خرج العادل لوداع العزيز في خواصه ثم خرج الأفضل فودعه أيضا وهو آخر من ودعه. ورحل العزيز من مرج الصفر في ثالث شعبان يريد مصر فلما كان ثالث عشره عمل الأفضل دعوة عظيمة لعمه وبقية الملوك ووادعهم ثم رحلوا من الغد إلى بلادهم إلا العادل فإنه أقام إلى تاسع شهر رمضان ثم رحل إلى بلاده بالشرق. وقدم العزيز إلى القاهرة في يوم وأما الأفضل فإنه هم بمكاتبة العزيز بما يؤكد أسباب الصلح فأماله عن ذلك خواصه وأغروه بأخيه ورموا جماعة من أمرائه بأنهم يكاتبون العزيز فاستوحش منهم وفطنوا بذلك فتفرقوا عنه. وسار الأمير عز الدين أسامة صاحب كوكب وعجلون عن الأفضل ولحق بالعزيز فأكرمه غاية الإكرام وأخذ يحرضه على الفضل ويحثه على المسير إلى دمشق وانتزاعها منه ويقول له: إن الأفضل قد غلب على اختياره وحكم عليه وزيره الضياء ابن الأثير الجزري وقد افسد أحوال دولته برأيه الفاسد ويحمل أخاك على مقاطعتك ويحسن له نقض اليمن فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النية ولم يوجد ذلك فحنثهم في اليمين قد تحقق وبرئت أنت من العهدة فاقصد البلاد فإنها في يدك قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه " وبينا هو في ذلك إذ فارق الأفضل الأمير شمس الدين أيدمر بن السلار وصل إلى العزيز فساعد الأمر أسامة على قصده ثم وصل أيضا إلى العزيز القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بق أبي عصرون فاحترمه وولاه قضاء الديار المصرية وضم إليه نظر الأوقاف. وأقبل الأفضل بدمشق على اللعب ليله ونهاره وتظاهر بلذاته وفوض الأمور إلى وزيره ثم ترك اللعب من غير سبب وتاب وأزال المنكرات وأراق الخمور وأقبل على العبادة ولبس الخشن من الثياب وشرع في نسخ مصحف بخطه واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه بعبادة ربه وواظب على الصيام وجالس الفقراء وبالغ في التقشف حتى صار يصوم النهار ويقوم الليل. وأما العزيز فإنه قطع خبز الفقيه الكمال الكردي من مصر فأفسد جماعة على السلطان وخرج إلى العرب فجمع ونهب الإسكندرية فسار إليه العسكر فلم يظفروا به. وقطع العزيز أيضا خبز الجناح وعلكان ومجد الدين الفقيه وعز الدين صهر الفقيه فساروا من القاهرة إلى دمشق فأقطعهم الملك الأفضل الإقطاعات. وفي شهر رمضان: كسر بحر أبي المنجا بعد عيد الصليب بسبعة أيام وتجاهر الناس فيه وفيه وقعت الآفة في البقر والجمال والحمير مهلك منها كثير. وفيه كثر حمل الغلة من البحيرة إلى بلاد المغرب لشدة الغلاء بها وكثرت بين الأمراء إشاعة أن إقطاعاتهم تؤخذ منهم فقصروا في عمارة البلاد. وارتفع السعر بالإسكندرية ونقص ماء النيل بعدما بلغ اثنين وعشرين إصبعا من سبعة عشر ذراعا فرفعت الأسعار وشرقت البلاد وبلغ القمح كل أردب بدينار وأخذ في الزيادة وتعذر وجود الخبز وضج الناس وكثرت المنكرات وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره. وأقيمت طاحون لطحن الحشيش بالمحمودية وحميت بيوت المزر وجعل عليها ضرائب فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر دينارا ومنع من عمل المزر البيوتي وتجاهر الكافة بكل قبيح فترقب أهل المعرفة حلول البلاء. وفيها قدم رسول متملك القسطنطينية يطلب صليب الصلبوت فأحضر من القدس وكان مرصعا بالجوهر وسلم إليه على أن يعاد ثغر جبيل من الفرنج. وتوجه الأمير شمس الدين جعفر بن شمس الخلافة بذلك.
سنة تسعين وخمسمائة تتمة سنة تسعين وخمسمائة في يوم الخميس رابع محرم: عقد مجلس بحضرة السلطان حضره أصحاب الدواوين.وفي عاشره: قدم الأمير حسام الدين ببشارة من عند الملك العادل وبقية الأولاد الناصرية فتلقاه السلطان والأمراء وحمل إليه سماط السلطنة فطلب الموافقة بين الأهل. وفي سادس عشره: ركب السلطان للصيد بالجيزة ومر بباب زويلة فأنكر بروز مصاطب الحوانيت في الأسواق ورسم بهدمها فهدمت بمباشرة محتسب القاهرة. ومر بصناعة العمائر فرسم بسد طلقات الدور المجاورة للنيل فسدت. وفي صفر: غيرت ولاة الأعمال. وفي عاشره: حلف العزيز لعمه العادل. وفي ثالث عشريه: عاد العزيز من الصيد بالجيزة. وفي هذا الشهر: غلت الأسعار فبلغ كل مائة أردب ثمانين دينارا. وفي خامس عشره: قدم فارس الدين ميمون القصري مقطع صيداء وسيف الدين سنقر المشطوب وشمس الدين سنقر الكبير مقطع الشقيف مفارقين الملك الأفضل فدفع العزيز لميمون خمسمائة دينار ولسنقر أربعمائة دينار وللمشطوب ثلاثمائة دينار. وفي ربيع الأول: اشتد الأمر في للزحام على الخبز لقلته في الأسواق ووقع الحريق في عدة مراضع بالقاهرة.وفي ثالث عشره: انحل السعر قليلا ووجد الخبز في الأسواق. وفي نصفه: ورد كتاب علم الدين قيصر بأنه تسلم القدس من جرديك في تاسعه وتسلم صليب الصلبوت وقرر أيضا إعادة جبيل من الفرنج. وفي سادس عشره: قدم بدر الدين لؤلؤ بكتاب الأفضل بخبر جبيل وسبب قدوم ميمون ورفيقيه. وفيه نزع السعر وبلغ كل مائة أردب إلى مائة وخمسة وسبعين دينارا وعظم ضجيج الناس من الجوع. وفي سابع عشريه: وصل صليب الصلبوت من القدس وهو خشبة مرصعة بجواهر في ذهب. وفي ثامن عشريه: ولى زين الدين علي بن يوسف الدمشقي قضاء القضاة بديار مصر عوضا عن صدر الدين بن درباس بعناية جماعة من المماليك به وخلع عليه. وفي سلخه: قدم رسول الملك العادل. وفي تاسع ربيع الآخر: هدم المحتسب حوانيت وإصطبلا كان صدر الدين بن درباس أنشأها في زيادة الجامع الأزهر بجوار داره ورفع صدر الدين نقض ذلك إلى داره. وقوي عزم السلطان على السفر وبعث بهرام يقترض له مالا من تجار الإسكندرية وطلب من قاضي القضاة زين الدين أن يقرضه مال الأيتام وكان يبلغ أربعة عشر ألف دينار فحملت إلى الخزانة. وكنب السلطان خطه بذلك وأشهد عليه وأحال به على بيت المال وقرر استخراجه منه وأمر بحمله إلى القاضي. هذا وقد تأخر القرض الذي كان السلطان صلاح الدين أقرضه في نوبة عكا وهو ثلاثون ألف دينار فلم يوف منه إلا يسيرا. وفي سادس عشره: توجه جعفر بن شمس الخلافة إلى الفرنج لإعادة جبيل. وفي يوم الخميس تاسع عشره: خرج السلطان إلى مخيمه ببركة الجب واستناب في غيبته بهاء الدين قراقوش ومعه ثلاثة عشر أميرا ونحو سبعمائة فارس. وتوجه مع السلطان سبعة وعشرون أميرا في ألفي فارس وألف من الحلقة. وفي ثالث جمادى الأولى: استقل السلطان بالمسير ونزل على دمشق في تاسع جمادى الآخرة ورحل عنها في ثامن عشريه بشفاعة عمه الملك العادل. وفي تاسع رجب: دخل الأفضل دمشق بعد أن تقرر الصلح بينه وبن أخيه الملك العزيز في سادسه. وفي رابع شعبان: دقت البشائر بالقاهرة فرحا بالصلح بين الأولاد الناصرية وزينت الأسواق.وقدم السلطان الملك العزيز إلى القاهرة سلخ شعبان. وفي سابع رمضان: وصل الملك المعظم توران شاه وإخوته وعيالهم من دمشق والديوان في ضائقة شديدة فعجزوا عن إقامة وظائفهم ومطابخهم وجراياتهم فنزلوا في الدار العزيزية. ونزعت الأسعار في المأكولات كلها. وفي تاسع عشره: وصل عز الدين أسامة مفارقا للأفضل.
ودخلت سنة إحدى وتسعين والعزيز على عزم المسير إلى الشام فاستشار الأفضل أصحابه فمنهم من أشار عليه بمكاتبة العزيز واسترضائه وأشار الوزير ابن الأثير عليه بالاعتصار بعمه العادل واستنجاده على العزيز فأصغى إليه وكثرت الإشاعة بقصد العزيز إقامة الخطبة في دمشق باسمه وضرب السكة له. فانزعج الأفضل وخرج من دمشق في رابع عشر جمادى الأولى وسار جريدة إلى عمه العادل فلقيه بصفين فلما نزلا ألحف الأفضل في المسألة له أن ينزل عنده بدمشق ليجيره من أخيه العزيز فأجابه وأنزله بقلعة جعبر ثم سار معه إلى دمشق أول جمادى الآخرة فوصل إليها في تاسعه ودخل الأفضل إلى حلب على البرية مستصرخا بأخيه الملك الظاهر فتلقاه وحلف له على مساعدته ثم رحل عنه إلى حماة فتلقاه ابن عمه الملك المنصور محمد ابن المظفر وحلف له ثم سار عنه إلى دمشق فدخلها في ثالث عشره وبها العادل فأفضى إليه بأسراره. وعلم العادل اختلال أحوال الأفضل وسوء تدبيره وقبيح سيرته فانحرف عنه ونهاه فلم ينته إلا أنه مبالغ في كرامة عمه حتى أنه ترك له السنجق. وصار العادل يركب بالسنجق السلطاني في كل يوم ويركب الأفضل في خدمته. فما هو إلا أن استقر ذلك إذ حدث بين الظاهر صاحب حلب وبين أخيه الأفضل وعمه العادل وحشة من أجل ميل الملك المنصور صاحب حماة إلى العادل. فسير الظاهر إلى أخيه العزيز يحرضه على قصد الشام ووعده بالمساعدة له على الأفضل فوافق ذلك غرضه وخرج من القاهرة بعساكره. فلما قارب العزيز دمشق كاتب الملك العادل الأمراء سرا واستمالهم وكان الأمراء الصلاحية قد وقع بينهم وبين الأمراء الأسدية تنافس لتقديم العزيز الصلاحية على الأسدية. فعملت حيل العادل حتى وقعت الوحشة بين الطائفتين ونفرت الأسدية من الملك العزيز. وكاتب العادل العزيز سرا يخوفه من الأسدية ويحثه على إبعادهم عنه وكاتب الأسدية يخوفهم من العزيز ويستميلهم إليه. فحاق ما مكره وتم له ما دبره وعزموا على مفارقة العزيز وحسنوا للأكراد والمهرانية موافقتهم فانقادوا إليهم. وكان مقدم أمراء الأكراد الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فاجتمع بالأكراد مع الأسدية واتفقوا بأجمعهم على مفارقة العزيز والانضمام إلى العادل والأفضل ومضايقة العزيز وعقدوا النية على مكاتبة من بقي منهم بمصر أن يستقبلوا العزيز ويحولوا بينه وبين القاهرة فيصير بذلك بين الفريقين ويؤخذ باليد. فلما كان في عشية الرابع من شوال: رحل الأمير أبو الهيجاء بالأكراد والمهرانية والأسدية وهم لابسون لامة الحرب ولحقوا بالعادل فسر بهم لأنهم معظم الجيش. فلما أصبح نهار الخامس من شوال رحل العزيز يريد مصر وهو متخوف من الأسدية المقيمين بالقاهرة. وكان نائبه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فلم يتغير على العزيز ووصل إلى القاهرة فاستقر بها. ثم إن العادل خرج بالأفضل من دمشق ومعه العساكر يريد اخذ القاهرة لما داخله من الطمع في العزيز واتفق مع الأفضل على أن يكون للعادل ثلث البلاد المصرية ويكون ثلثاها للأفضل. فأجابه إلى ذلك ورحلا من دمشق وخرج معهم أيضا المنصور صاحب حماة وعز الدين بن المقدم وسابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر واستخلف الأفضل بدمشق أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصرى وانضم إليهم عز الدين جرديك النوري نائب القدس فلما وصلوا تل العجول أخلع الأفضل على جميع الأسدية وعلى الأكراد الأفضلية وأعطاهم الكوسات. وسار الأفضل إلى القدس وتسلمه من جرديك وأعطاه بيسان وكوكب والجولان والمنيحة ثم سار العسكر حتى نزل على بلبيس وبها جموع الصلاحية والعزيزية ومقدمهم فخر الدين جهاركس على الصلاحية والأمير هكدري ابن يعلي الحميدي على طائفة الأكراد فنازلهم العادل والأفضل. وكانت أيام زيادة ماء النيل والأسعار غالية والعلف متعذر فبلغ العسكر الواصل الجهد وندم أكابرهم على ما كان منهم هذا والعزيز يمد أهل بلبيس بالمراكب المشحونة بالرجال والعدد فبلغ ذلك الأسدية فركبوا إلى المراكب وأخذوا بعضها وغرقوا بعضها وأسروا خلقا وسلم ثمانية مراكب عادت إلى القاهرة واشتد الحصارعلى بلبيس حتى كادت تؤخذ وضاق العزيز بالقاهرة وقلت الأموال عنده وكان محببا إلى الرعية لما فيه من حسن السيرة وكثرة الكرم والرفق فلما نازل العادل والأفضل بلبيس احتاج إلى استخدام الرجال فلم يجد عنده مالا فبذل له الأغنياء جملة أموال فلم يقبلها وكان القاضي قد تنزه عن ملابسة الدولة ومخالطة أهلها واعتزل لما رأى من اختلال الأحوال وكان عبد الكريم بن علي البيساني يتولى الحكم والإشراف في البحيرة مدة طويلة فحصل من ذلك مالا جما. ثم حدثت بينه وبين أخيه القاضي الفاضل مشاجرة اقتضت اتضاع حاله عند الناس بعد احترامهم إياه فصرف عن عمله. وكان متزوجا بامرأة موسرة من بنى ميسر فسكن بها في ثغر الإسكندرية وأساء عشرتها لسوء خلق كان فيه فسار أبرها إلى الإسكندرية وأثبت عند قاضيها ضرر ابنته فمضى القاضي بنفسه إلى الدار فلم يقدر على فتح الباب الذي من داخله المرأة فأمر بنقب الدار وأخرج المرأة وسلمها لأبيها وأعاد بناء النقب فغضب عبد الكريم وسار إلى القاهرة وبذل للأمير فخر الدين جهاركس خمسة آلاف دينار مصرية ووعد خزانة الملك العزيز بأربعين ألف دينار على ولاية قضاء الإسكندرية وحمل ذلك بأجمعه إلى فخر الدين جهاركس. فأحضره جهاركس إلى العزيز وهو حينئذ في غاية الضرورة إلى المال وقال: " هذه خزانة مال قد أتيتك بها من غير طلب ولا تعب " وعرفه الخبر. فأطرق العزيز مليا ثم رفع رأسه وقال : " أعد المال إلى صاحبه وقل له إياك والعود إلى مثلها فما كل ملك يكون عادلا وعرفه أني إذا قبلت هذا منه أكون قد بعت به أهل الإسكندرية وهذا لا افعله أبدا ". فلما سمع هذا جهاركس وجم وظهر في وجهه التغير. فقال له العزيز: " أراك واجما أظنك أخذت على الوساطة شيئا ". قال: " نعم خمسة آلاف دينار ". فأطرق العزيز ثم قال: " أعطاك مالا تنتفع به وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة " ثم وقع له بخطه إطلاق جهة طنبدة ومغلها في السنة سبعة آلاف دينار فلامه أصحابه وألحوا عليه في الاقتراض من القاضي الفاضل فاستدعاه إلى مجلسه بمنظرة من دار الوزارة كانت تشرف على الطريق فعندما عاين القاضي الفاضل استحيا منه ومضى إلى دار الحرم احتراما له من مخاطبته في القرض فلم يزل الأمراء به حتى أخرجوه من عند الحرم. فلما اجتمع بالفاضل قال له بعد أن أطنب في الثناء عليه: " قد علمت أن الأمور قد ضاقت علي وقلت الأموال عندي وليس لي إلا حسن نظرك وإصلاح الأمر إما بمالك أو برأيك أو بنفسك ". فقال القاضي الفاضل: " جميع ما أنا فيه من نعمتكم ونحن نقدم أولا الرأي والحيلة ومتى احتيج إلى المال فهو في يديك ". واتفق أن العادل " لما اشتد على أصحابه الغلاء والضيق " استدعى القاضي الفاضل برسول قدم منه على العزيز فسيره إليه. وقد قيل إن العزيز لما جرى على المراكب التي جهزها إلى بلبيس ما جرى خاف على الملك أن يخرج من يده فسير إلى عمه في السر يعرفه أنه قد أخطأ وأنه قد عزم على اللحاق ببلاد المغرب ويسأله الاحتفاظ بحرمه وأولاده. فرق له العادل واستدعى القاضي الفاضل فلما قرب منه ركب إلى لقائه وأكرمه ومازالا حتى تقرر الأمر على أن الأسدية والأكراد يرجعون إلى خدمة العزيز من غير أن يؤاخذهم بشيء ويرد عليهم إقطاعاتهم ويحلف العزيز لهم ويحلفون له وأن يكون العادل مقيما بمصر عند العزيز ليقرر قواعد ملكه وأن العزيز والأفضل يصطلحان ويستقر كل منهما على ما بيده. فعاد القاضي الفاضل وقد تقرر الأمر على ما ذكر وحلف كل منهم لصاحبه على الوفاء. وخرج العزيز من القاهرة إلى بلبيس فالتقاه عمه العادل وأخوه الأفضل ووقع الصلح التام في الظاهر. ورحل الأفضل يريد الشام ومعه الأمير أبو الهيجاء السمين وصار الساحل جميعه مع الأفضل وعاد العزيز إلى القاهرة وصحبته عمه العادل فأنزله في القصر من القاهرة. وأخذ العادل في إصلاح أمور مصر والنظر في ضياعها ورباعها وأظهر من محبة العزيز شيئا زائدا وصار إليه الأمر والنهي والحكم والتصرف في سائر أمور الدولة جليلها وحقيرها وصرف القاضي محيي الدين محمد بن أبي عصرون عن قضاء مصر وولى زين الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي. وفيها جدد العزيز الصلح بينه وبين الفرنج. وفيها ورد كتاب ملك الروم يتضمن أن كلمة الروم اجتمعت عليه وأنه أحسن إلى المسلمين وأمرهم بإقامة الجامع فأقيمت الصلاة فيه يوم الجمعة الصلاة مع الخطبة وأنه عمر جانبا منه كان انهدم من ماله فتمكن من في القسطنطينية من المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة بها. والتمس ملك الروم الوصية بالبطرك والنصارى وأن يمكنوا من إخراج موتاهم بالشمع الموقد وفيها عزل زين الدين علي بن يوسف بن بندار عن القضاء في حادي عشر جمادى الأولى بمحيي الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن هبة الله بن عصرون.
|